الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
قد ذكرت فيما كتبته من المناسك أن السفر إلى مسجده وزيارة قبره ـ كما يذكره أئمة المسلمين في مناسك الحج ـ عمل صالح / مستحب. وقد ذكرت في عدة [مناسك الحج] السنة في ذلك، وكيف يسلم عليه، وهل يستقبل الحجرة، أم القبلة؟ على قولين: فالأكثرون يقولون: يستقبل الحجرة، كمالك والشافعي وأحمد. وأبو حنيفة يقول: يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره في قول، وخلفه في قول؛ لأن الحجرة المكرمة لما كانت خارجة عن المسجد، وكان الصحابة يسلمون عليه لم يكن يمكن أحد أن يستقبل وجهه صلى الله عليه وسلم ويستدبر القبلة، كما صار ذلك ممكنا بعد دخولها في المسجد، بل كان إن استقبل القبلة صارت عن يساره، وحينئذ فإن كانوا يستقبلونه ويستدبرون الغرب فقول الأكثرين أرجح، وإن كانوا يستقبلون القبلة حينئذ ويجعلون الحجرة عن يسارهم فقول أبي حنيفة أرجح. والصلاة تقصر في هذا السفر المستحب باتفاق أئمة المسلمين، لم يقل أحد من أئمة المسلمين: إن هذا السفر لا تقصر فيه الصلاة. ولا نهى أحد عن السفر إلى مسجده، وإن كان المسافر إلى مسجده يزور قبره صلى الله عليه وسلم، بل هذا من أفضل الأعمال الصالحة ولا في شيء من كلامي وكلام غيري نهى عن ذلك، ولا نهى عن المشروع في زيارة قبور الأنبياء والصالحين، ولا عن المشروع في زيارة سائر القبور، بل قد ذكرت في غير موضع استحباب زيارة القبور كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور أهل البقيع وشهداء أحد، ويعلم أصحابه / إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم: (السلام عليكم أهل الديار من المومنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية. اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم). وإذا كانت زيارة قبور عموم المؤمنين مشروعة فزيارة قبور الأنبياء والصالحين أولي، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم له خاصية ليست لغيره من الأنبياء والصالحين، وهو أنا أُمرنا أن نصلي عليه وأن نسلم عليه في كل صلاة، ويتأكد ذلك في الصلاة، وعند الأذان، وسائر الأدعية، وأن نصلي ونسلم عليه عند دخول المسجد ـ مسجده وغير مسجده ـ وعند الخروج منه، فكل من دخل مسجده فلا بد أن يصلي فيه ويسلم عليه في الصلاة. والسفر إلى مسجده مشروع، لكن العلماء فرقوا بينه وبين غيره حتى كره مالك ـ رحمه الله ـ أن يقال: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن المقصود الشرعي بزيارة القبور السلام عليهم والدعاء لهم، وذلك السلام والدعاء قد حصل على أكمل الوجوه في الصلاة في مسجده وغير مسجده، وعند سماع الأذان، وعند كل دعاء. فتشرع الصلاة عليه عند كل دعاء، فإنه ولهذا يسلم المصلي عليه في الصلاة قبل أن يسلم على نفسه وعلى سائر عباد الله الصالحين، فيقول: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله /وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين). ويصلي عليه فيدعو له قبل أن يدعو لنفسه. وأما غيره فليس عنده مسجد يستحب السفر إليه كما يستحب السفر إلى مسجده، وإنما يشرع أن يزار قبره كما شرعت زيارة القبور. وأما هو صلى الله عليه وسلم فشرع السفر إلى مسجده ونهى عما يوهم أنه سفر إلى غير المساجد الثلاثة. ويجب الفرق بين الزيارة الشرعية التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين الزيارة البدعية التي لم يشرعها بل نهى عنها، مثل اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، والصلاة إلى القبر، واتخاذه وثنا. وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: (لا تُشَدُّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصي). حتى إن أبا هريرة سافر إلى الطور الذي كلم الله عليه موسي بن عمران ـ عليه السلام ـ فقال له بَصْرَة بن أبي بَصْرَة الغفاري: لو أدركتك قبل أن تخرج لما خرجت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، ومسجد بيت المقدس). فهذه المساجد شرع السفر إليها لعبادة الله فيها بالصلاة والقراءة والذكر والدعاء والاعتكاف، والمسجد الحرام مختص بالطواف لا يطاف بغيره. وما سواه من المساجد إذا أتاها الإنسان وصلي فيها من غير سفر / كان ذلك من أفضل الأعمال، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من تطهر في بيته ثم خرج إلى المسجد كانت خطواته إحداهما تحط خطيئة، والأخري ترفع درجة، والعبد في صلاة ما دام ينتظر الصلاة، والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلي فيه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث). ولو سافر من بلد إلى بلد مثل إن سافر إلى دمشق من مصر لأجل مسجدها أو بالعكس، أو سافر إلى مسجد قباء من بلد بعيد لم يكن هذا مشروعا باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم. ولو نذر ذلك لم يف بنذره باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، إلا خلاف شاذ عن الليث بن سعد في المساجد، وقاله ابن مسلمة من أصحاب مالك في مسجد قباء خاصة. ولكن إذا أتي المدينة استحب له أن يأتي مسجد قباء ويصلي فيه لأن ذلك ليس بسفر ولا بشد رحل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء راكبًا وماشيا كل سبت، ويصلي فيه ركعتين، وقال: (من تطهر في بيته ثم أتي مسجد قباء كان له كعمرة). رواه الترمذي وابن أبي شيبة، وقال سعد بن أبي وقاص وابن عمر: صلاة فيه كعمرة. ولو نذر المشي إلى مكة للحج والعمرة لزمه باتفاق المسلمين. ولو نذر أن يذهب إلى مسجد المدينة أو بيت المقدس ففيه قولان: / أحدهما: ليس عليه الوفاء، وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي، لأنه ليس من جنسه ما يجب بالشرع. والثاني: عليه الوفاء، وهو مذهب مالك وأحمد بن حنبل والشافعي في قوله الآخر؛ لأن هذا طاعة لله. وقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه). ولو نذر السفر إلى غير المساجد أو السفر إلى مجرد قبر نبي أو صالح لم يلزمه الوفاء بنذره باتفاقهم، فإن هذا السفر لم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، بل قد قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصي). وإنما يجب بالنذر ما كان طاعة، وقد صرح مالك وغيره بأن من نذر السفر إلى المدينة النبوية إن كان مقصوده الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وَفَّي بنذره، وإن كان مقصوده مجرد زيارة القبر من غير صلاة في المسجد لم يف بنذره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد). والمسألة ذكرها القاضي إسماعيل بن إسحاق في [المبسوط] ومعناها في [المدونة] و[الخلاف] وغيرهما من كتب أصحاب مالك. يقول: إن من نذر إتيان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لزمه الوفاء بنذره؛لأن المسجد لا يؤتي إلا /للصلاة، ومن نذر إتيان المدينة النبوية، فإن كان قصده الصلاة في المسجد وَفَّي بنذره، وإن قصد شيئًا آخر مثل زيارة مَنْ بالبقيع أو شهداء أحُد لم يف بنذره؛ لأن السفر إنما يشرع إلى المساجد الثلاثة. وهذا الذي قاله مالك وغيره ما علمت أحدًا من أئمة المسلمين قال بخلافه، بل كلامهم يدل على موافقته. وقد ذكر أصحاب الشافعي وأحمد في السفر لزيارة القبور قولين: التحريم، والإباحة. وقدماؤهم وأئمتهم قالوا: إنه محرم. وكذلك أصحاب مالك وغيرهم. وإنما وقع النزاع بين المتأخرين؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرجال إلا إلى ثلاثة مساجد) صيغة خبر ومعناه النهي، فيكون حراما. وقال بعضهم: ليس بنهى وإنما معناه: أنه لا يشرع وليس بواجب ولا مستحب، بل مباح كالسفر في التجارة وغيرها. فيقال له: تلك الأسفار لا يقصد بها العبادة، بل يقصد بها مصلحة دنيوية مباحة، والسفر إلى القبور إنما يقصد بها العبادة، والعبادة إنما تكون بواجب أو مستحب، فإذا حصل الاتفاق على أن السفر إلى القبور ليس بواجب ولا مستحب كان من فعله على وجه التعبد مبتدعا مخالفًا للإجماع، والتعبد بالبدعة ليس بمباح، لكن من لم يعلم أن ذلك بدعة فإنه قد يعذر، فإذا بينت له السنة لم يجز له مخالفة النبي / صلى الله عليه وسلم ولا التعبد بما نهى عنه، كما لا تجوز الصلاة عند طلوع الشمس ولا عند غروبها، وكما لا يجوز صوم يوم العيدين، وإن كانت الصلاة والصيام من أفضل العبادات؛ ولو فعل ذلك إنسان قبل العلم بالسنة لم يكن عليه إثم. فالطوائف متفقة على أنه ليس مستحبا، وما علمت أحدا من أئمة المسلمين قال: إن السفر إليها مستحب، وإن كان قاله بعض الأتباع فهو ممكن، وأما الأئمة المجتهدون فما منهم من قال هذا. وإذا قيل هذا كان قولا ثالثا في المسألة، وحينئذ فيبين لصاحبه أن هذا القول خطأ مخالف للسنة ولإجماع الصحابة، فإن الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين في خلافة أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلى ومن بعدهم إلى انقراض عصرهم ـ لم يسافر أحد منهم إلى قبر نبي ولا رجل صالح. وبكل حال فهذا القول لو قاله نصف المسلمين لكان له حكم أمثاله من الأقوال في مسائل النزاع. فأما أن يجعل هو الدين الحق، وتستحل عقوبة من خالفه، أو يقال بكفره، فهذا خلاف إجماع المسلمين، وخلاف ما جاء به الكتاب والسنة. فإن كان المخالف للرسول /في هذه المسألة يكفر فالذي خالف سنته وإجماع الصحابة وعلماء أمته فهو الكافر. ونحن لا نكفر أحداً من المسلمين بالخطأ، لا في هذه المسائل ولا في غيرها. ولكن إن قدر تكفير المخطئ فمن خالف الكتاب والسنة والإجماع ـ إجماع الصحابة والعلماء ـ أولي بالكفر ممن وافق الكتاب والسنة والصحابة وسلف الأمة وأئمتها، فأئمة المسلمين فرقوا بين ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وبين ما نهى عنه في هذا وغيره، فما أمر به هو عبادة وطاعة وقربة، وما نهى عنه بخلاف ذلك، بل قد يكون شركا، كما يفعله أهل الضلال من المشركين وأهل الكتاب ومن ضاهاهم حيث يتخذون المساجد على قبور الأنبياء والصالحين، ويصلون إليها، وينذرون لها، ويحجون إليها، بل قد يجعلون الحج إلى بيت المخلوق أفضل من الحج إلى بيت اللّه الحرام. ويسمون ذلك [الحج الأكبر]، وصنف لهم شيوخهم في ذلك مصنفات، كما صنف المفيد بن النعمان كتابا في مناسك المشاهد سماه [مناسك حج المشاهد]، وشبه بيت المخلوق ببيت الخالق. وأصل دين الإسلام: أن نعبد اللّه وحده ولا نجعل له من خلقه نداً ولا كفواً ولا سَمِيا، قال تعالى: والنبي صلى الله عليه وسلم نهى أمته عن دقيق الشرك وجليله حتى قال صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير اللّه فقد أشرك). رواه أبو داود وغيره. وقال له رجل: ما شاء اللّه وشئت، فقال: (أجعلتني للّه نداً؟ بل ما شاء اللّه وحده)، وقال: (لا تقولوا ما شاء اللّه وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء اللّه ثم شاء محمد)، وجاء معاذ بن جبل مرة فسجد له، فقال: (ماهذا يامعاذ؟) فقال: يا رسول اللّه، رأيتهم في الشام يسجدون لأساقفتهم. فقال: (يامعاذ، إنه لا يصلح السجود إلا للّه، ولو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها). فلهذا فرق /النبي صلى الله عليه وسلم بين زيارة أهل التوحيد وبين زيارة أهل الشرك، فزيارة أهل التوحيد لقبور المسلمين تتضمن السلام عليهم والدعاء لهم، وهي مثل الصلاة على جنائزهم؛ وزيارة أهل الشرك تتضمن أنهم يشبهون المخلوق بالخالق، ينذرون له ويسجدون له، ويدعونه، ويحبونه مثل ما يحبون الخالق، فيكونون قد جعلوه للّه نداً وسووه برب العالمين. وقد نهى اللّه أن يشرك به الملائكة والأنبياء وغيرهم ونهى ـ سبحانه ـ أن يضرب له مثل بالمخلوق، فلا يشبه بالمخلوق الذي / يحتاج إلى الأعوان والحجاب ونحو ذلك، قال تعالى: ومحمد صلى الله عليه وسلم سيد الشفعاء لديه، وشفاعته أعظم الشفاعات، وجاهه عند اللّه أعظم الجاهات، ويوم القيامة إذا طلب الخلق الشفاعة من آدم، ثم من نوح، ثم من إبراهيم، ثم من موسي، ثم من عيسي، كل واحد يحيلهم على الآخر، فإذا جاؤوا إلى المسيح يقول: اذهبوا إلى محمد، عَبْدٌ غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال: (فأذهب، فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا، وأحمد ربي بمحامد يفتحها على لا أحسنها الآن، فيقال: أي محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع). قال: (فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة) الحديث. فمن أنكر شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر فهو مبتدع ضال؛ كما ينكرها الخوارج والمعتزلة. ومن قال: إن مخلوقا يشفع عند اللّه بغير إذنه فقد خالف إجماع المسلمين ونصوص القرآن، قال تعالى: فمن سافر إلى المسجد الحرام أو المسجد الأقصي أو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فصلي في مسجده، وصلي في مسجد قباء، وزار القبور ـ كما مضت به سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ـ فهذا هو الذي عمل العمل الصالح. ومن أنكر هذا السفر فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وأما من قصد السفر لمجرد زيارة القبر ولم يقصد الصلاة في مسجده، وسافر إلى مدينته فلم يصل في مسجده صلى الله عليه وسلم ولاسلم عليه في الصلاة، بل أتي القبر ثم رجع، فهذا مبتدع /ضال، مخالف لسنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ولإجماع أصحابه، ولعلماء أمته. وهو الذي ذكر فيه القولان: أحدهما: أنه محرم، والثاني: أنه لا شيء عليه ولا أجر له. والذي يفعله علماء المسلمين هو الزيارة الشرعية، يصلون في مسجده صلى الله عليه وسلم، ويسلمون عليه في الدخول للمسجد وفي الصلاة، وهذا مشروع باتفاق المسلمين. وقد ذكرت هذا في المناسك، وفي الفتيا، وذكرت أنه يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه. وهذا هو الذي لم أذكر فيه نزاعا في الفتيا، مع أن فيه نزاعا؛ إذ من العلماء من لا يستحب زيارة القبور مطلقاً، ومنهم من يكرهها مطلقاً، كما نقل ذلك عن إبراهيم النخعي والشعبي، ومحمد بن سيرين، وهؤلاء من أجلة التابعين. ونقل ذلك عن مالك. وعنه أنها مباحة ليست مستحبة. وهو أحد القولين في مذهب أحمد؛ لكن ظاهر مذهبه ومذهب الجمهور: أن الزيارة الشرعية مستحبة. وهو أن يزور قبور المؤمنين للدعاء لهم، فيسلم عليهم ويدعو لهم. وتزار قبور الكفار؛ لأن ذلك يذكر الآخرة. وأما النبي صلى الله عليه وسلم فله خاصة لا يماثله فيها أحد من الخلق، وهو أن المقصود عند قبر غيره من الدعاء له هو مأمور في حق الرسول في الصلوات الخمس، وعند دخول المساجد والخروج منها، وعند الأذان، وعند كل دعاء.وهو قد نهى عن اتخاذ القبور مساجد، / ونهى أن يتخذ قبره عيداً، وسأل اللّه ألا يجعله وَثَنًا يعْبَد. فمنع أحد أن يدخل إلى قبره فيزوره كما يدخل إلى قبر غيره. وكل ما يفعل في مسجده وغير مسجده من الصلاة والسلام عليه أمر خصه اللّه وفضله به على غيره، وأغناه بذلك عما يفعل عند قبر غيره ـ وإن كان جائزاً. وأما [اتخاذ القبور مساجد] فهذا ينهى عنه عند كل قبر، وإن كان المصلي إنما يصلي للّه ولا يدعو إلا اللّه. فكيف إذا كان يدعو المخلوق أو يسجد له وينذر له ونحو ذلك مما يفعله أهل الشرك والبدع والضلالة؟! وأما إذا قدر أن من أتي المسجد فلم يصل فيه، ولكن أتي القبر ثم رجع، فهذا هو الذي أنكره الأئمة كمالك وغيره، وليس هذا مستحباً عند أحد من العلماء، وهو محل النزاع هل هو حرام أو مباح؟ وما علمنا أحداً من علماء المسلمين استحب مثل هذا، بل أنكروا إذا كان مقصوده بالسفر مجرد القبر من غير أن يقصد الصلاة في المسجد، وجعلوا هذا من السفر المنهى عنه. ولا كان أحد من السلف يفعل هذا، بل كان الصحابة إذا سافروا إلى مسجده صلوا فيه واجتمعوا بخلفائه مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلى، يسلمون عليه ويصلون عليه في الصلاة، ويفعل ذلك من يفعله منهم عند دخول المسجد والخروج منه. ولم / يكونوا يذهبون إلى القبر. وهذا متواتر عنهم، لا يقدر أحد أن ينقل عنهم أو عن واحد منهم أنه كان إذا صلي خلف الخلفاء الراشدين يذهب في ذلك الوقت أو غيره يقف عند الحجرة خارجا منها. وأما دخول الحجرة فلم يكن يمكنهم. فإذا كانوا بعد السفر إلى مسجده يفعلون ما سنه لهم في الصلاة والسلام عليه ولا يذهبون إلى قبره، فكيف يقصدون أن يسافروا إليه؟ أو يقصدون بالسفر إليه دون الصلاة في المسجد؟ ومن قال: إن هذا مستحب فلينقل ذلك عن إمام من أئمة المسلمين، ثم إذا نقله يكون قائله قد خالف أقوال العلماء كما خالف فاعله فعل الأمة، وخالف سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وإجماع أصحابه وعلماء أمته. قال تعالى: وعلماء المسلمين قد ذكروا في مناسكهم استحباب السفر إلى مسجده، وذكروا زيارة قبره المكرم، وما علمت أحداً من المسلمين قال: إنه من لم يقصد إلا زيارة القبر يكون سفره مستحباً، ولو قالوا ذلك في قبر غيره، لكن هذا لم يقصده بعض الناس ممن لا يكون عارفا بالشريعة وبما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ونهى عنه، وغايته أن يعذر بجهله، / ويعفو اللّه عنه.وأما من يعرف ما أمر اللّه به ورسوله، وما نهى اللّه عنه ورسوله، فهؤلاء كلهم ليس فيهم من أمر بالسفر لمجرد زيارة قبر، لا نبي ولا غير نبي، بل صرح أكابرهم بتحريم مثل هذا السفر من أصحاب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم. وإنما قال: إنه مباح غير محرم طائفة من متأخري أصحاب الشافعي وأحمد. وتنازعوا حينئذ فيمن سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، هل يقصر الصلاة؟ على قولين، كما ذكر في جواب الفتيا. وبعضهم فرق بين قبور الأنبياء وغيرهم، وقال: إن السفر لمجرد زيارة القبور محرم، كما هو مذهب مالك وأصحابه وقول المتقدمين من أصحاب الشافعي وأحمد. فهؤلاء عندهم أن العاصي بسفره لا يقصر الصلاة. فعلى قولهم لا تقصر الصلاة، لكن الذين يسافرون لا يعلمون أن هذا محرم، ومن علم أنه محرم لم يفعله، فإنه لا غرض لمسلم أن يتقرب إلى اللّه بالمحرم. وحينئذ فسفرهم الذي لم يعلموا أنه محرم إذا قصروا فيه الصلاة كان ذلك جائزاً ولا إعادة عليهم، كما لو سافر الرجل لطلب العلم أو سماع الحديث من شخص فوجده كذابا أو جاهلا، فإن قصر الصلاة في مثل هذا السفر جائز. وقد ذكر أصحاب أحمد في السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين هل تقصر فيها الصلاة؟ أربعة أقوال: قيل: لا يقصر مطلقا. وقيل: يقصر مطلقا ./ وقيل: لا يقصر إلا إلى قبر نبينا صلى الله عليه وسلم. وقيل: لا يقصر إلا إلى قبره المكرم وقبور الأنبياء دون قبور الصالحين، والذين استثنوا قبر نبينا صلى الله عليه وسلم لقولهم وجهان: أحدهما ـ وهو الصحيح ـ: أن السفر المشروع إليه هو السفر إلى مسجده، وهذا السفر تقصر فيه الصلاة بإجماع المسلمين. وهؤلاء راعوا مطلق السفر، ولم يفصلوا بين قصد وقصد؛ إذ كان عامة المسلمين لابد أن يصلوا في مسجده، فكل من سافر إلى قبره المكرم فقد سافر إلى مسجده المفضل. وكذلك قال بعض أصحاب الشافعي. فمن نذر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يوفي بنذره، وإن نذر قبر غيره فوجهان. وكذلك كثير من العلماء يطلق السفر إلى قبره المكرم، وعندهم أن هذا يتضمن السفر إلى مسجده؛ إذ كان كل مسلم لابد إذا أتي الحجرة المكرمة أن يصلي في مسجده، فهما عندهم متلازمان. ثم من هؤلاء من يقول: المسلم لابد أن يقصد في ابتداء السفر الصلاة في مسجده، فالسفر المأمور به لازم، وهؤلاء لم يسافروا لمجرد القبر. ومنهم من قال: بل السفر لمجرد قصد القبر جائز، وظن هؤلاء أن الاستثناء ليس لخصوصه بل لكونه نبيا فقال: تقصر الصلاة في السفر إلى قبور الأنبياء دون غيرهم. وحقيقة الأمر: أن فعل الصلاة في مسجده من لوازم هذا السفر، / فكل من سافر إلى قبره المكرم لابد أن تحصل له طاعة وقربة يثاب عليها بالصلاة في مسجده. وأما نفس القصد فأهل العلم بالحديث يقصدون السفر إلى مسجده، وإن قصد منهم من قصد السفر إلى القبر أيضاً، إذا لم يعلم أنه منهى عنه. وأما من لم يعرف هذا فقد لا يقصد إلا السفر إلى القبر، ثم إنه لابد أن يصلي في مسجده فيثاب على ذلك. وما فعله وهو منهى عنه ولم يعلم أنه منهى عنه لا يعاقب عليه، فيحصل له أجر ولا يكون عليه وزر، بخلاف السفر إلى قبر غيره، فإنه ليس عنده شيء يشرع السفر إليه، لكن قد يفعل هذا طاعة يثاب عليها ويغفر له ما جهل أنه محرم. والصلاة في المساجد المبنية على القبور منهى عنها مطلقا، بخلاف مسجده، فإن الصلاة فيه بألف صلاة؛ فإنه أسس على التقوي، وكان حرمته في حياته صلى الله عليه وسلم وحياة خلفائه الراشدين قبل دخول الحجرة فيه، حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه والمهاجرون والأنصار، والعبادة فيه إذ ذاك أفضل وأعظم مما بقي بعد إدخال الحجرة فيه، فإنها إنما أدخلت بعد انقراض عصر الصحابة في إمارة الوليد بن عبد الملك، وهو تولي سنة بضع وثمانين من الهجرة النبوية، كما تقدم. وظن بعضهم أن الاستثناء لكونه نبيا، فعدي ذلك فقالوا: يسافر / إلى سائر قبور الأنبياء كذلك. ولهذا تنازع الناس: هل يحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ مع اتفاقهم بأنه لا يحلف بشيء من المخلوقات المعظمة كالعرش والكرسي والكعبة والملائكة. فذهب جمهور العلماء؛ كمالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد ـ في أحد قوليه ـ إلى أنه لا يحلف بالنبي، ولا تنعقد اليمين، كما لا يحلف بشيء من المخلوقات، ولا تجب الكفارة على من حلف بشيء من ذلك وحنث، فإنه صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (لا تحلفوا إلا باللّه). وقال: (من كان حالفاً فليحلف باللّه أو ليصمت). وفي السنن: (من حلف بغير اللّه فقد أشرك). وعن أحمد بن حنبل رواية أنه يحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة؛ لأنه يجب الإيمان به خصوصا، ويجب ذكره في الشهادتين والأذان. فللإيمان به اختصاص لا يشركه فيه غيره. وقال ابن عقيل: بل هذا لكونه نبيا. وطرد ذلك في سائر الأنبياء، مع أن الصواب الذي عليه عامة علماء المسلمين سلفهم وخلفهم أنه لا يحلف بمخلوق لا نبي ولا غير نبي، ولا ملك من الملائكة، ولا ملك من الملوك، ولا شيخ من الشيوخ. والنهي عن ذلك نهى تحريم عند أكثرهم كمذهب أبي حنيفة وغيره، وهو أحد القولين في مذهب أحمد، كما تقدم، حتى إن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما يقول أحدهم: لأن أحلف باللّه كاذباً أحب اليمن أن / أحلف بغير اللّه صادقاً. وفي لفظ: لأن أحلف باللّه كاذباً أحب إلى من أن أضاهي. فالحلف بغير اللّه شرك، والشرك أعظم من الكذب. وغاية الكذب أن يشبه بالشرك. كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عدلت شهادة الزور بالإشراك باللّه) قالها مرتين أو ثلاثاً. وقرأ قوله تعالى: وهو صلى الله عليه وسلم نهى عن الحلف بغير الله، وعـن الصلاة عنـد طلـوع الشمس وغـروبها، وعن اتخاذ القبـور مساجـد، واتخاذ قبره عيدًا، ونهى عـن السفر إلى غـير المساجـد الثلاثة، وأمثال ذلك لتحقيق إخلاص الدين للّه. وعبادة اللّه وحده لا شريك له. فهذا كله محافظة /على توحيد اللّه عز وجل، وأن يكون الدين كله للّه، فلا يعبد غيره ولا يتوكل إلا عليه، ولا يدعي إلا هو، ولا يتقي إلا هو، ولا يصلي ولا يصام إلا له، ولا ينذر إلا له، ولا يحلف إلا به، ولا يحج إلا إلى بيته. فالحج الواجب ليس إلا إلى أفضل بيوته. وأقدمها، وهو المسجد الحرام. والسفر المستحب ليس إلا إلى مسجدين لكونهما بناهما نبيان.فالمسجد النبوي مسجد المدينة أسسه على التقوي خاتم المرسلين، ومسجد إيليا قد كان مسجداً قبل سليمان. ففي الصحيحين عن أبي ذر ـ رضي اللّه عنه ـ قلت: يا رسول اللّه، أي مسجد وضع أولاً؟ قال: (المسجد الحرام). قال: قلت: ثم أي؟ قال: (المسجد الأقصي). قلت: كم بينهما ؟ قال: (أربعون سنة، ثم حيثما أدركتك الصلاة فَصَلِّ، فإنه لك مسجد). وفي لفظ البخاري: (فإن فيه الفضل). وهذه سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، كان يصلي حيث أدركته الصلاة. فالمسجد الأقصي كان من عهد إبراهيم ـ عليه السلام ـ لكن سليمان ـ عليه السلام ـ بناه بناء عظيما. فكل من المساجد الثلاثة بناه نبي كريم ليصلي فيه هو والناس. فلما كانت الأنبياء ـ عليهم السلام ـ تقصد الصـلاة في هـذين المسجدين شرع السفر إليهما للصلاة فيهما والعبادة، اقتداء بالأنبياء ـ عليهم السلام ـ وتأسيا بهم. كما أن إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ /لما بني البيت وأمره اللّه تعالى أن يؤذن في الناس بحجه، فكانوا يسافرون إليه من زمن إبراهيم ـ عليه السلام ـ ولم يكن ذلك فرضا على الناس في أصح القولين، كما لم يكن ذلك مفروضاً في أول الإسلام، وإنما فرضه اللّه على محمد صلى الله عليه وسلم في آخر الأمر لما نزلت سورة [آل عمران]. وفي البقرة أمر بإتمام الحج والعمرة لمن شرع فيهما؛ ولهذا كان التطوع بهما يوجب إتمامهما عند عامة العلماء. وقيل: إن الأمر بالإتمام إيجاب لهما ابتداء، والأول هو الصحيح. فكذلك المسجد الأقصي ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم بني كلا منهما رسول كريم، ودعا الناس إلى السفر إليهما للعبادة فيهما. ولم يبن أحد من الأنبياء ـ عليهم السلام ـ مسجداً ودعا الناس إلى السفر للعبادة فيه إلا هذه المساجد الثلاثة. ولكن كـان لهم مساجـد يصـلون فيها، ولم يدعوا الناس إلى السفـر إليها، كما كـان إبراهيم ـ عليه السلام ـ يصلي في موضعـه، وإنما دعا الناس إلى حج البيت. ولا دعا نبي من الأنبياء إلى السـفر إلى قبره ولا بيته ولا مقامه ولا غير ذلك من آثاره، بل هم دعوا إلى عبادة اللّه وحـده لا شـريك لـه، قـال تعالى لمـا ذكرهـم: {ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن
|